سوليكا هاتشويل- شابة يهودية مغربية من مواليد مدينة طنجة سنة 1817
سوليكا هاتشويل
شابة يهودية مغربية من مواليد مدينة طنجة سنة 1817م، يسميها اليهود بالاسم المختصر (سول ) ويسميها المسلمون (زوليخا)، اشتهرت بايمانها القوي وتضحيتها ومأساتها في سبيل تمسكها بدينها اليهودي، بالرغم من صغر سنها، فوهبت حياتها، وأعدمت في ساحة عامة بمدينة فاس عام 1834م، وكان عمرها لا يتجاوز 17 عاما. وقد تم تنفيذ الحكم فيها بتهمة الرِّدة عن الاسلام، وفيما يلي عرض لأطوار قضيتها كما تداولتها كتب التاريخ.
ابتدأت قصة سوليكا المأساوية عندما بلغت سن 14 سنة، حيث تشاجرت مع والدتها المسماة شميحا، لأنها قطعت شعرها الطويل بدون رغبتها، وغادرت أسرتها في غضب، والتجأت الى بيت صديقتها الجارة المسلمة تدعى الطاهرة المسعودي، وكان للطاهرة هذه أخ، أعجب بجمال سوليكا، وهَامَ في حبّها حتى الجنون ، فعرض عليها الأموال والهدايا من كل الأشكال ، إن أسلمت وقبلت أن تتزوجه، لكنها رفضت عطاياه وإغراءه، فوقع هذا الرفض في نفس هذا الشاب موقعا مسّ أعماق نفسه، فقرر أن ينتقم لشرفه، فأشاع كذبته بين الناس أن سوليكا دخلت الى الاسلام بسبب حبّها له، ولما انتشر الخبر بين الناس ، نفت كل ذلك، بأنها لم تسلم، وإن صاحب الإشاعة هو أخ الجارة الذي تحرش بها وأراد أن يغريها بالمال لترتبط به، شريطة إعلان إسلامها، وهذا ما رفضته مطلقا، وما فعَلَهُ ذلك الشاب ما هو إلا للإنتقام.
وقد دفع مركز الشاب الاجتماعي حيث كان من الأغنياء، أن يشتري شهود الزور ، الذين شهدوا بأن الفتاة أسلمت فعلا، عن طيب خاطرها دون أية ضغوط من أحد، واعتبرت مسلمة مرتدة عن الاسلام، وهذه التهمة فظيعة في الدين الاسلامي تقتضي الحكم بالاعدام، فردّت عليهم أمام الملأ بقولتها الشهيرة : (أنا يهودية، وقد ولدت يهودية، وأريد أن أموت يهودية).
وفي سنة 1831م، وبناء على تهمة الردة عن الاسلام الكاذبة، رُفعت قضيتها الى قاضي مدينة طنجة، الذي أمر سوليكا أن تحال الى باشا طنجة العربي عسيدو، وأثناء استجوابها حوْل قضيتها دار بينهما الحوار التالي :
وعَدَ الباشا سوليكا إن تراجعت عن رِدّتها، سوف يحميها من انتقام والديها، وستنال ما يحلو لها من الجواهر والحرير ، وسيزوجها من شاب وسيم، وإذا أصرت على موقفها الرافض، هدّدها الباشا بما يلي : سآمر بأن تقيّدي بالسلاسل ، وتُرمَى للحيوانات البرية المفترسة لتمزيق جسدك، ولن تري ضياء النهار بعد اليوم، وسوف تموتين من الجوع، وسوف تشعُرين بالصرامة في الانتقام، والسخط على من تسبب في غضب النبي.
جواب سوليكا :
أنا سأصبر على تحمل وزن سلاسلك وسوف أقدم أعضائي إلى الحيوانات المفترسة لتمزيقها، وسأتخلى عن ضوء النهار الى الأبد. وسأهلك من الجوع، ومتى سيتم تراكم جميع مصائب الحياة عليّ بأوامرك، سأبتسم لسخطك وغضبك للنبي، لأنه لا هو ولا أنت قادر على التغلب على امرأة ضعيفة، ومن الواضح أن السماوات لن تساعدك في نشر إيمانك.
ووفقا لوعده، قرر الباشا وضع الفتاة في زنزانة بدون نوافذ ولا ضياء، مع سلاسل حول العنق واليدين والرجلين.
ولما استعطف والداها الباشا أن يفك اسرها، هدّدهما بافتدائها بغرامة تعجيزية كبيرة، أو الرجوع الى الاسلام، وأمام عدم قدرتهما على ذلك، عرضا قضيتهما على نائب قنصل اسبانيا بطنجة يدعى (دون جوسي ريكو)، والذي حاول افتكاكها بدون جدوى، وأمام صعوبة قضيتها العويصة، قرر الباشا أن يبعثها الى السلطان مولاي عبدالرحمن بن هشام العلوي بفاس ، لينظر في شأنها، واشترط على والد الفتاة تأدية صوائر النقل والاقتضاء أو يجلد هو 100 جلدة (بالفلقة) على أرجله، ولعدم قدرته على الأداء، قرر القنصل الإسباني خوسي أن يؤدي عنه تلك المصاريف.
وفي سنة 1831م، مَثُلت سوليكا في فاس أمام السطان ، فعين لها القاضي الذي سيتولى النظر في في قضيتها، فاستدعى القاضي حكماء الطائفة اليهودية من الربيين الكبار بفاس ، وعلى رأسهم الربي السرفاتي ، وأنذرهم بأن الفتاة إن لم ترجع الى دينها الاسلامي، فسيقطع راسها، وسيعاقبون هم أيضا، وعلى الرغم من النصائح التي أسداها حكماء الحاخامات إليها، والضغط عليها للرجوع الى دين الاسلام، لإنقاذ حياتها، وإنقاد الطائفة اليهودية أيضا من العقاب، رفضت كل ذلك، فتقرر إدانتها قضائيا كأثيمة مسلمة، وإجبار والدها على أداء واجبات تشييعها، وهناك رآها ابن السلطان وانبهر بجمالها، وحاول هو أيضا إرشادها بالرجوع الى الاسلام، وواجهته بالرفض القاطع، وحكم عليها بالاعدام بقطع رأسها.
وفي سنة 1834م، أي بعد ثلاث سنوات من عمر القضية، تم تنفيذ الحكم بقطع رأسها في الساحة العامة بفاس ، وكان مقررا أن تحرق جثتها بعد موتها، لكن أحد الحاخامات الكبار يدعى رفائيل اتصل بكبار أعيان فاس المتنفذين ورجال المخزن من أصحاب القرار ، وأعطاهم أموالا طائلة، مقابل انتشال جثة التعيسة الصغيرة من المحرقة، لتدفن حسب الشريعة الموسوية.
وقد دلوه على حيلة لأخذها، بحيث لما وضعت الجثة في المحرقة، ألقى الحاخام قطعا نقدية ذهبية كثيرة في الهواء، فاتجهت أنظار المكلفين بحرق الجثة الى جمع النقود المتناثرة على الأرض، وفي تلك اللحظة تمكن أعوان الحاخام من سرقة جثة الفتاة من بين أيديهم، لتدفن في المقبرة اليهودية بفاس كصِدّيقة عظيمة، ودفنت خفية في مقبرة بيت حاييم في الملاح بفاس ، قرب ضريح ربي يوداه بن عطار .
وقد وصف (روميو) هذه المأساة، وتأثُّر وحُزن جميع سكان أهل فاس في يوم إعدامها، وكان ذلك اليوم من جهة أخرى يوم فرح بالنسبة للمتعصبين للدين الاسلامي أمام تعصب الفتاة لدينها اليهودي، أما اليهود بفاس فقد عاشوا في حزن عميق وكآبة مريرة لعدم مقدرتهم على فعل أي شيء، أما فيما يتعلق بموقف السلطان ، فقد أمر الجلاّد أن لا يقتلها في أول الأمر ، بل يصيبها بجرح، لعلها تخاف في آخر لحظة، ومن تم ترجع عما تتمسك به، لكنها رفضت أيضا، وقالت للجلاد كلماتها الأخيرة : (لا تجعلني أنتظر ، إقطع رأسي بضربة واحدة، بذلك سأموت، أنا بريئة من كل جريمة، إله ابراهيم سينتقم لموتي ).
وقد هال الطائفة اليهودية بفاس أمر حياة وممات هذه الفتاة، ووجب عليهم الأداء لاستعادة جثتها المضرجة بالدماء، ورأسها، والتربة التي ستواري جسدها في المقبرة اليهودية، واعتبرت منذ ذلك الحين شهيدة الايمان .
وتأثر لموتها اليهود والمسلمون على السواء، فسماها اليهود بعد ذلك (الصديقة) أي المستقيمة، في حين سماها المسلمون (لالة زوليخا) وأصبح قبرها مقصدا للزوار اليهود والمسلمين معا.
أما وقد أصبحت هذه الفتاة ولية صالحة بالنسبة للعرب، وأصبحت قديسة بالنسبة لليهود، وقبرها مزار يحج اليه الناس من كل مكان، قد يبدو ذلك غريبا نوعا ما، وهذا ما فسّره الكاتب ليون غودار في كتابه (وصف وتاريخ المغرب) المنشور في عام 1860م فقال : وعلى الرغم من عدم تسامحهم، فالمغاربة مع تناقضهم على الأقل كما يبدو ، يكرّمون قديسي الديانات الأخرى، أو يطلبون ممن يدعونهم بالكفار البركات من صلواتهم، وفي فاس ، يُحيي الشباب نوعا من الطقوس إحياء لذكرى فتاة طنجة سوليكا اليهودية، التي لقيت حتفها في عصرنا تحت التعذيب الوحشي ، لتتخلي عن شريعة موسى ، أو تجددها كما تقدمت به، مقابل الرضوخ لإغراءات الحب والملذات.
وقد نقش على شاهد قبرها العبارة التالية بالعبرية والفرنسية: {هنا ترقد الآنسة سوليكا هاتشويل المولودة في طنجة سنة 1817م، رافضة الدخول في الدين الاسلامي، وقد قتلها العرب في فاس سنة 1834م، انتزعوها من عائلتها، والجميع يأسف لهذه الطفلة القديسة}.
وذكر الرحالة اسرائيل جوزيف بنجامان عندما زار المغرب في أواسط القرن 19م، أن جيران هذه الفتاة حكوا له عنها فقالوا : أبدا لن يَشرق ضوء شمس افريقيا على جمال أكثر كمالا من هذه الفتاة، إنها خطيئة إنسانية في حق هذه الجوهرة الكريمة، التي يملكها اليهود، وسوف تكون هذه جريمة من سمحوا في هذا الجمال .
وصارت مع الزمن، تضحية سوليكا هاتشويل بحياتها، مصدر إلهام للرسامين والأدباء والكتاب، وقد كتب أحد الكتاب تفصيلا لما حدث استنادا إلى مقابلات شهود عيان من قبل يوجينيو ماريا روميرو. كما نشرت شركة مارتينو استشهاد الشابة اليهودية في عام 1837م، وقامت احدى دور الأوبرا بتشخيص هذه الحادثة في مسرحية بعنوان (خادمة من طنجة) وقصتها أيضا موضوع أغنية فرانسواز بعنوان الرومانسيات السفارديم، وساندرا وجون ماكلين في ألبوم الأغاني اليهودية في عام 1860م، والفنان الفرنسي ألفريد دهودينك، الذي رسم لوحة مستوحاة من حياة وموت هاتشويل رسم فيها تنفيذ الحكم على اليهودية المغربية، في لوحة عرضت في المتحف اليهودي في عام 2012م.
وللشابة سوليكا هاشويل أخ أكبر يدعى عاشر هاتشويل ، وكان والدها حاييم تاجرا يدير مدرسة دينية صغيرة في المنزل ، بهدف الحفاظ على المعتقدات اليهودية.
وإذا حللنا هذه القضية تحليلا معمقا، نخلُص الى أن أصل هلاك هذه الضحية المسكينة، يعود بالأساس الى ذلك الشاب اللئيم الخبيث الذي نظر الى مظهرها الخارجي، ولم يتدبر في أعماقها وأخلاقها وايمانها، ولم ينظر إليها بعين العطف والإنسانية، ولنتساءل هنا، تُرى هل تتبع هذا المجرم من طنجة مصير جارته الصغيرة بفاس ، وهل ندم على فعلته الشنيعة، وهل لديه شجاعة سوليكا فيطير الى فاس ويقف أمام الملأ في يوم الإعدام، ويعلن بأعلى صوته أن هذه الطفلة بريئة، وأنا الذي راودتها عن نفسها فاستعصمت، ولن أتسبب اليوم في قطع رأسها، وسلب روحها الزكية، ووضع حد لنفسها الطاهرة.
وربما ستنقلب الأمور رأسا على عقب، وستكون بادرته فرجا وحلا لسلسلة من المواقف المرتبطة ابتداء من حيرة السلطان ورأفة ابنه الأمير وموقف الباشا وتدخل نائب القنصل ومسؤولية القضاة وعجز الحاخامات وحزن والدي الفتاة، وسيكون شخصه عند العامة محترما ونبيلا.
أما الشابة سوليكا بعد تحرير رقبتها سيكون لديها موقف آخر من سماحة الديانات الاسلامية واليهودية والمسيحية، وأنها ديانات سماوية نزلت على الإنسانية بالبراهين الساطعة، وهي الكتب المقدسة القرآن والتوراة والانجيل، وربما ستنظر أيضا الى هذا الشاب المنقذ لحياتها والمعلن براءتها، نظرة أخرى ملؤها التقدير والاحترام، وستعلن بملء شفتيها الصغيرتين، وتقول : الآن حصحص الحق ، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، وأشهد أن موسى وعيسى وسائر الأنبياء رسُل الله.